يتصدر البحث العلمي إحدى الأولويات الأساسية لكل مؤسسةِ تعليمٍ عالٍ في الوطن العربي والتي من بينها التعليم والتنمية وخدمة المجتمع، يظهر ذلك جليا عند معاينة الرؤية والرسالة والأهداف لكل واحدة من هذه المؤسسات. ولكي تصل إلى مبتغاها وتحقق غاياتها المرسومة في مجال البحث العلمي.
تقوم هذه المؤسسات بين الفينة والأخرى بوضع الخطط والاستراتيجيات وعقد ورش العمل والمؤتمرات للنهوض في هذا المجال وتعزيز مكانته ضمن أنشطتها التي تقوم بتنفيذها. ونجد كذلك وزارات التعليم العالي على المستويات المحلية أو العربية تقوم بمحاولات وجهود عديدة ومتنوعة للغرض نفسه. وهذا يعكس إيمان الجميع بأهمية البحث العلمي في مؤسسات التعليم العالي ودوره في خطط التنمية المستدامة وتلبية حاجات المجتمع وتوفير الحلول الناجعة لمشكلاته المحلية من ناحية، ونقل أفراده من مستوردين ومستهلكين للمعرفة إلى منتجين ومستخدمين فاعلين لها من الناحية الأخرى.
ولكي نصل بالبحث العلمي إلى ذلك المستوى المؤثر في تنمية المجتمع وتطوره لابد أن تتسم نوعيته بالجدة والأصالة والابداع والتي يتم تحديدها من خلال ما يقدمه للمعرفة الإنسانية الحالية وما يضيفه للمجالات العلمية المختلفة. وهذا مطلب ينادي به الجميع ويظهر كهدف رئيسي في كل الأنشطة ذات الصلة بتطوير البحث العلمي في الوطن العربي كالمؤتمرات وورش العمل الوزارية العربية أو تلك المحلية التي تعقدها الدول أو الجامعات فيها. وفي أغلب الأحيان نجد أهداف ومخرجات هذه الأنشطة هي ذاتها، تتكرر أهدافها باستمرار وتصب مخرجاتها في الاتجاه نفسه من خلال توصياتٍ لو قمنا بتحليل محتوياتها لنجدها تشترك في مجموعة من الأمور أصبحت مألوفة لدينا كسن التشريعات المنظمة للبحث العلمي وإيجاد مصادر التمويل وتفعيل العلاقة بين مؤسسات البحث العلمي والقطاعين العام والخاص وغيرها من الأمور.
لا يعني هذا التقليل من شأن أي نشاط يهدف إلى الإرتقاء بالبحث العلمي حيث يلتقي أصحاب الخبرة مع أصحاب القرار تحت سقف واحد وتُعرض التجارب وتزداد المعارف وتتم الاستفادة والتقييم ومتابعة التطور في المجال. إلا أننا نجد العديد من المؤشرات والدعوات التي تفيد بتدني مستوى البحث العلمي في مؤسسات التعليم العالي العربية بشكل عام وبضرورة العمل على تطويره وتفعيله. يظهر ذلك جليا من خلال قراءة سريعة لعناوين وأهداف ونتاجات مؤتمرات وأنشطة في مجال البحث العلمي.
في مؤتمر الوزراء المسؤولين عن التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي في دورته السادسة عشرة الأخيرة، الذي عُقد في مقر الجامعة العربية تحت عنوان «التعليم العالي العربي وعالم العمل والإنتاج رؤية جديدة»، أكد المجتمعون على أهمية التخطيط المتكامل للتعليم العالي والبحث العلمي وقطاعات العمل والإنتاج في إطار الرؤية الوطنية للتنمية المستدامة لكل دولة وأولوياتها وعناصر تميزها النسبي. ودعا فيه الوزراء أيضاً إلى مراجعة التشريعات والقوانين الوطنية المنظمة لعلاقة مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي مع سوق العمل بهدف تعزيز الشراكة بينهما وتشجيع الشباب على الالتحاق بالعمل في القطاع الخاص.
وكما هو معلوم فأصحاب المصلحة الخاصة بالبحث العلمي متنوعون، الباحثون والمؤسسة البحثية وراسمو السياسات والمخططون ومن هم في سياق المشكلة البحثية (المجتمع) والمستفيدون وغيرهم.
ولكي نضمن تعميم الفائدة التي ينتجها البحث العلمي على هؤلاء المعنيين لابد من معالجة أمرين هامين، حالة الانفصام بين هذه الأطراف الناتجة عن قلة فرص التواصل بينها، فعدم وجود قنوات تواصل بين أصحاب المصلحة يُوَلّد عزلة كل طرف عن الطرف الآخر مما يجعل من عملية التعاون بينهم معدومة ويجعل من التعرف على طبيعة أعمالهم وإمكاناتهم ومشاكلهم واحتياجاتهم مبهمة. وعدم الثقة التي تنتاب كل طرف تجاه الآخر.
كيف لهذه المؤسسة أن تسهم نتائج أبحاثها في تطوير القطاع الخاص ما دامت العلاقة بينهما معدومة. وكيف لنتائج بحث تربوي تجريبي أن تسهم في حل مشكلة تربوية في الميدان ما دامت أبواب المدرسة موصدة أمام هذا الباحث الأكاديمي
فكيف لمؤسسة تعليم عال أن تسهم من خلال نتائج أبحاثها العلمية في رسم سياسات اقتصادية لبلد لا رابط بين هذه المؤسسة والقطاع الاقتصادي فيه. وكيف لهذه المؤسسة أن تسهم نتائج أبحاثها في تطوير القطاع الخاص ما دامت العلاقة بينهما معدومة. وكيف لنتائج بحث تربوي تجريبي أن تسهم في حل مشكلة تربوية في الميدان ما دامت أبواب المدرسة موصدة أمام هذا الباحث الأكاديمي.
من الممكن لمؤسسات التعليم العالي المبادرة في معالجة هذين الأمرين من خلال فتح أبوابها للأطراف الأخرى وتبني قنوات تواصل معها من خلال القيام بأنشطة وفعاليات كعقد لقاءات وندوات وورش عمل تدعو لها الأطراف الأخرى يتم فيها عرض الأفكار والاطلاع على وجهات النظر وتحديد الأدوار والأولويات. كما يمكن للدوائر البحثية في هذه المؤسسات أن تضم في عضويتها شخصيات ذات وزن في عالم الأعمال وفي القطاع الخاص وفي الوزارات الأخرى المعنية، وهذا من شأنه زيادة الثقة بين الجميع وبالتالي نعزيز فرص التعاون المشترك.
وعلينا أن لا نغفل الاستفادة من التجارب وقصص النجاح المختلفة في هذا المجال. فقد كانت هناك قصص نجاح لبعض الجامعات في العديد من الدول العربية التي استطاعت أن تكسر الحواجز وتذلل الصعاب التي تعترض دمج مجهوداتها البحثية وقدراتها في هذا الشأن فاتحة أبوابها على مجتمعاتها المحلية، ومنها من تعدى ذلك ليغطي مناطق اقليمية وعالمية. إن مثل هذه القصص، ورغم قلتها ومحدوديتها الكمية والنوعية، يمكن أن يبنى عليها ويستفاد منها وبالتالي تعميمها. فعرض ونشر مثل هذه القصص وتبيان الفوائد التي حصلت عليها الأطراف كافة ولاسيما الفوائد المادية من شأنه أن يمهد الطريق لكافة القطاعات المجتمعية العامة منها والخاصة للانفتاح على ما يمكن أن تقدمه مؤسسات التعليم العالي في سبيل تطوير وتحسين أعمال تلك القطاعات من خلال البحث في مشكلاتها وإيجاد الحلول المناسبة لهذه المشكلات.
على المؤسسات أن تنهج النهج الذي يمكنها أن تكون بيوت خبرة حقيقية قادرة على التخطيط والتنفيذ في المجالات المختلفة، وأن يتعدى بحثها العلمي البحث الفردي الموجه لأغراض شخصية كمتطلبات العمل والترقيات
كما أن إيلاء الثقة بقدرات مؤسسات التعليم العالي البحثية وإمكاناتها من قِبَل الوزارات المعنية وإشراكها في رسم سياساتها وخططها التطويرية يساعد في تعزيز التعاون بين هذه الجهات وتطويره. وكذلك وعي القطاع الخاص بقدرات وإمكانات هذه المؤسسات البحثية وإمكانية زيادة إنتاجيته وقدراته التنافسية والنهوض بأدائه في السوق مهم أيضا لتعزيز هذا التعاون.
وفي المقابل على هذه المؤسسات أن تنهج النهج الذي يمكنها أن تكون بيوت خبرة حقيقية قادرة على التخطيط والتنفيذ في المجالات المختلفة، واضعة نصب أعينها أن يتعدى بحثها العلمي البحث الفردي الموجه لأغراض شخصية كمتطلبات العمل والترقيات، وإنما يتجاوز ذلك لينخرط جهدها البحثي بالمشروعات الوطنية التي هي بحاجة إلى البحث والتقصي لإيجاد حلول لمشكلات واقعية وحقيقية.
إن زرع الثقة وتبادلها بين جميع أصحاب المصلحة هو السبيل الوحيد للارتقاء بالبحث العلمي محليا وعربيا وهو الطريق الأقصر لتفعيل دوره ومساهمته في تطوير المجتمعات واقتصادياتها وتخطي مشكلاتها وبالتالي ازدهارها وتقدمها ورقيها. وهذا سيشكل الخطوة الأولى نحو الانفتاح عالميا والمساهمة في اقتصاده، اقتصاد المعرفة. فكيف لنا أن نجاري أو ننافس اقتصاديات الدول من حولنا إن لم نثبت قدراتنا وإمكاناتنا الذاتية في سياقاتنا المحلية والعربية أولا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق